في حكم الغيبة والنميمة للصائم
السـؤال:هل الغِيبةُ والنّميمةُ تُبْطلان الصّيامَ؟ فإذا كانتا لا تُبطلانه فما مدى صحّةِ قولِ مَنْ يستدلّ على أنّهما مِنْ مُبْطلاتِ الصّيامِ بقولِه صلّى الله عليه وآلِه وسلّم: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ، فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»(١)؟
الجـواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالصّومُ هو التّعبدُ للهِ بالإمساكِ عنِ المفطّراتِ مِنْ طلوعِ الفجرِ الصّادقِ إلى غروبِ الشّمسِ إمساكًا حسّيًّا، ويُتْبَعُ ذلك بالإمساكِ المعنويِّ عنِ الكلامِ المحرَّمِ والمكروهِ مِنَ اللّغوِ والرّفَثِ والصّخَبِ وقولِ الزّورِ، ويدخل فيه كلُّ كلامٍ محرَّمٍ مِنَ الكذبِ والغِيبةِ والنّميمةِ وشهادةِ الزّورِ والسّبِّ والشّتمِ، والجهلِ الذي هو ضدُّ الحِلْمِ مِنَ السّفَهِ بالكلامِ الفاحشِ وغيرِها مِنْ صُوَرِ قبيحِ الكلامِ، علمًا أنّ صيانةَ اللّسانِ عن هذه المنهيّاتِ واجبٌ على كلِّ حالٍ وفي كلِّ وقتٍ، وحرمةُ الوقوعِ فيها مِنَ الصّائمِ أشدُّ وأغلظُ، خاصّةً في زمنٍ فاضلٍ كرمضانَ أو مكانٍ فاضلٍ كالحرمينِ لحديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ، فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»، قال الصّنعانيُّ -رحمه اللهُ-: «الحديثُ دليلٌ على تحريمِ الكذبِ والعملِ به، وتحريمِ السّفَهِ على الصّائمِ، وهما محرَّمان على غيرِ الصّائمِ -أيضًا-، إلاّ أنّ التّحريمَ في حقِّه آكِدٌ كتأكُّدِ تحريمِ الزّنا مِنَ الشّيخِ والخُيَلاَءِ مِنَ الفقيرِ»(٢)، كما يدلّ على هذا المعنى مِنْ حفظِ اللّسانِ عن جميعِ أنواعِ الكلامِ الذي لا خيْرَ فيه قولُه صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ والْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»(٣)، وقولُه صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم: «وإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ»(٤).
وعليه، فالصّومُ الكاملُ هو التّعبدُ للهِ بالإمساكِ الحسّيِّ والمعنويِّ، والذي يتعلّق به بطلانُ الصّومِ منهما إنّما هو ما ثبت مِنَ المفطّراتِ الحسّيّةِ شرعًا كالأكلِ والشّربِ والجماعِ والقيءِ عمدًا وخروجِ دمِ الحيضِ والنّفاسِ وغيرِها مِنَ المفطّراتِ، أمّا الكلامُ القبيحُ مِنْ محرَّمٍ ومكروهٍ فلا يُعَدُّ منها، غيرَ أنّه يُنْقِصُ أجْرَ الصّائمِ ويقلّل ثوابَه على وجهٍ لا يكون صيامُه تامًّا كاملاً.
وليس في حديثِ أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه السّابقِ ما يدلّ على بطلانِ صومِ مَنْ وقع في آفاتِ اللّسانِ، فغايةُ ما يدلُّ عليه هو بيانُ عِظَمِ ارتكابِ قولِ الزّورِ والجهلِ في حالِ الصّيامِ، وبيانُ «أنّ كمالَ الصّومِ وفضيلتَه المطلوبةَ إنّما يكون بصيانتِه عنِ اللّغوِ والكلامِ الرّديءِ»(٥)، ولا اعتبارَ لمفهومِ قولِه صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم: «فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»، لأنّ اللهَ تعالى لا يحتاج إلى عملِ أحدٍ ولا إلى طاعتِه فهو سبحانه غنيٌّ عنِ العالمين وأعمالِهم.
فالحاصلُ أنّ المقصودَ مِنْ حكمةِ تشريعِ الصّيامِ ليس في ذاتِ الإمساكِ عنِ المفطّراتِ بالجوعِ والعطشِ، وإنّما الحكمةُ مِنْ شرعيّةِ الصّيامِ هي الامتناعُ عن كلِّ ما حرّمه اللهُ مِنْ جهةِ الحسِّ والمعنى تهذيبًا للنّفسِ وتقويمًا للأخلاقِ والطّباعِ.
والذي يؤيّد عدمَ بطلانِ صيامِ المغتابِ ما عليه كافّةُ العلماءِ، حتّى نقل ابنُ قدامةَ -رحمه اللهُ- الإجماعَ على صحّةِ صومِه فقال: «الغِيبةُ لا تفطّر الصّائمَ إجماعًا، فلا يصحّ حملُ الحديثِ على ما يخالِفُ الإجماعَ»(٦).
قلتُ: وإن كان الإمامُ الأوزاعيُّ -رحمه اللهُ- قد خالف في ذلك فقال: «يَبْطُل الصّومُ بالغِيبةِ ويجب قضاؤُه»(٧)، إلاّ أن مرجوحيّةَ ما ذهب إليه تظهر في ضعفِ مستنَدِه، حيث استدلّ بحديثِ: «خَمْسٌ يُفَطِّرْنَ الصَّائِمَ: الْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ وَالْكَذِبُ وَالْقُبْلَةُ وَالْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ»(٨)، والحديثُ مِنْ حيث سندُه لا يقوى على الحجّيّةِ مع أنّه قابلٌ للتّأويلِ، قال النّوويُّ -رحمه اللهُ-: «حديثٌ باطلٌ لا يُحْتَجّ به، وأجاب عنه الماورديُّ والمتولّي وغيرُهما بأنّ المرادَ بطلانُ الثّوابِ لا نفْسِ الصّومِ»(٩).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
----------------------------------------------------------
الجزائر في: 21 شعبان 1431ﻫ
الموافـق ﻟ: 02 أوت 2010م
١- أخرجه البخاريّ في «الأدب» باب قول الله تعالى ﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ (6057)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
٢- «سبل السّلام» للصّنعانيّ (2/320).
٣- أخرجه البخاريّ في «الأدب» باب «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ» (6018)، وأخرجه مسلم في «الإيمان» (1/ 41) رقم (47)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
٤- أخرجه البخاريّ في «الصّوم» (1904) باب هل يقول إنّي صائم إذا شُتِمَ، ومسلم في «الصّيام» (1/ 511) رقم (1151)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
٥- «المجموع» للنّوويّ (6/356).
٦- «المغني» لابن قدامة (3/104).
٧- «المجموع» للنّوويّ (6/356).
٨- قال الزّيلعيّ في «نصب الرّاية» (2/ 483): «رواه ابن الجوزيّ في «الموضوعات» من حديث عنبسة .. وقال: هذا حديث موضوع، وقال ابن معين: سعيد كذّاب ومِن سعيد إلى أنس كلّهم مطعون فيهم انتهى. وقال ابن أبي حاتم في «كتاب العلل»: سألت أبي عن حديث رواه بقيّة عن محمّد بن الحجّاج عن ميسرة بن عبد ربه عن جابان عن أنس أنّ النّبيّ عليه السّلام قال: «خَمْسٌ يُفَطِّرْنَ الصَّائِمَ» فذكره، فقال أبي: إنّ هذا كذبٌ وميسرة كان يفتعل الحديث».
٩- «المجموع» للنّوويّ (6/356).
مصدر
http://www.ferkous.net/rep/Bg35.php