بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد الأمين وآله وصحبه أجمعين.
الحمد لله على جزيل نعمه، والشكر له على واسع فضله وكرمه، حث المؤمنين المظلومين على الجهاد بقوله:" أذن للذين يقتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير"الحج: ٣٩.
لقد تطور مفهوم الوطن بتطور الإنسان وتمدنه، فصار الوطني إذا ترنم بوطنه وتغنى بذكراه، لا يعني مجرد الأرض والسكان فحسب. وإنما يعني إلى جانب ذلك مفاخر وطنه التاريخية، وأخبار حروبه وانتصاراته، وسير أبطاله، ومشاهير رجاله، وما ترك هؤلاء من الآثار والمباني والمؤلفات والاختراعات. كما يعني ذلك أصالة الوطن وعاداته وتقاليده، ويعني ما في وطنه من مروج ورياض وجبال ووهاد وأنهار وغدران ونبات وأشجار، مما يحدد في خياله صورة مميزة لوطنه ومفاخر الوطن وأمجاده وتاريخه. وكل ذلك ترمز إليه تلك القطعة من النسيج التي نسميها العلم والتي يكرم الوطن بإكرامها ويهان بإهانتها. والوطني الصحيح هو الذي يهيم بحب وطنه، ويتغنى صادقا بتلك المعاني السامية التي يوحي بها عَلَمُ بلاده، وإنما تتفاوت مستويات الأمم في الارتقاء المدني والاجتماعي والسياسي، بقدر ما عند أفرادها من الحب والتقدير للوطن، وما يتوفر فيهم من الاستعداد للقيام بواجبهم نحوه، والموت في سبيل حياته وعزته وكرامته.
يقول الله تعالى: "يأيها الذين ءامنوا إن تتقوا الله يجعلكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم* وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير المكرين". فقد قرن الله عز وجل في الآية الكريمة بين قتل النفس والخروج من الوطن، وما ذلك إلا لأنهما متقاربان في شدة الأثر والصعوبة على الإنسان، ولا غرابة أن يتساوى إجلاء الإنسان عن وطنه، وخروج روحه من بدنه، إذ ليس أشق على النفس من فراق الوطن والتغرب عنه، لمن كان له قلب حي وشعور نبيل. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعد أن هاجر إلى المدينة المنورة يحن إلى مكة ويذكرها ويتأثر عند ذكرها، ويروى أنه عندما هاجر منها مرغما التفت إليها مخاطبا إياها بقوله:"الله يعلم أنك أحب بلاد الله إليَّ ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت" أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وحب الوطن في نظر الإسلام من الإيمان، فمتى قوي إيمان المرء ورسخ قويت روحه الوطنية.
جعل الله قداسة الدين والعقيدة فوق كل شيء فلا قيمة للأرض والوطن والمال والجاه، لكن اقتضت سنة الله أن تكون القوى المعنوية التي تتمثل في العقيدة السليمة والدين الحق والسلوك القويم هي المحافظة للمكاسب والقوى المادية. فمهما كانت الأمة غنية في خلقها السليم متمسكة بدينها الصحيح فإن سلطانها المادي المتمثل في الوطن والمال والعزة يغدوا أكثر تماسكا وارسخ بقاء وأمنع جانبا، ومهما كانت فقيرة في أخلاقها مضطربة تائهة في عقيدتها فإن سلطانها المادي المتمثل في ذكرها يغدو أقرب إلى الاضمحلال والزوال والتاريخ شاهد على ذلك يقول الله عز وجل: " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرنها تدميرا".
إن من المعاني السامية التي نتذكرها في هذه الأيام المشهودة، ما قدمه المجاهدون من تضحيات جسيمة متمثلة في بذل المهج والنفوس والأموال وغيرها، كل ذلك استجابة لنداء الحق لما دعاهم:" يأيها الذين ءامنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم"التوبة: ٤١وإنفاذا للصفقة الربانية الرابحة ببيع الأنفس والأموال مقابل شراءالجنة :" إن الله اشترى من المومنين أنفسهم وأمولهم بأن لهم الجنة يقتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التورية والانجيل والقرءان ومن اوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم وذلك هو الفوز العظيم".التوبة: ١١١.
لقد برهن الشعب الجزائري في مختلف ثوراته ضد الاستعمار البغيض عن حبه لوطنه وتقديره لمفاخره وأمجاده وكتب بدمائه الزكيَّة وثيقة النصر في معركة نوفمبر الخالدة. تلك الوثيقة التي حددت مكانة الوطن الجزائري في نفوس أبنائه. ولا عجب فالوطنية إذا ارتفعت في نفوس أفراد الشعب إلى مقام العقيدة الدينية، تدفقت كالموج في القلوب، وانفجرت كالبركان في وجه من تسول له نفسه المساس بهذا الوطن.
إن ما يفوق المليون ونصف المليون شهيدا ما كانت أرواحهم الزكية الطاهرة لتضيع سدى أو تذهب أدراج الرياح. وعليه فلابد من المحافظة على هذه المكاسب الغالية. ومن هنا كانت الذكرياتُ- ومنها ذكرى ثورة نوفمبر المجيدة- محطاتٍ منيرةً في ماضيها التليد، يعود إليها الخلف من حين لآخر ليتذكر أمجاد السلف، وينظر إلى تاريخه بأعين الحاضر، لأن الذكرى لاشك تنفع المؤمنين، بالإضافة إلى تزوده بالعبر كي تستمرَّ في مسيرة بناء مستقبله على نهج قويم خال من العثرات، فيحافظ بذلك على الذاكرة الجماعية لأمته.
فعلينا أن نعود إلى ديننا الحنيف، ونعتبر بماضينا المجيد، ولا ننسى التاريخَ، ونربي الناشئةَ تربيةً دينيةً وطنيةً صحيحة، ونوجِّههم توجيها ثقافيا مشتركا، يوحِّد آمالهم وغاياتِهم وأهدافَهم. فنعتني بمقومات هذه الأمة الجزائرية من دين ولغة وتاريخ.
اللهم ارحم المجاهدين والشهداء، وأنزلهم منازل السعداء، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
آمـــين